في خطوة تاريخية تعكس تحولاً عميقاً في فلسفة العدالة الجنائية، أعلنت هيئة «شؤون الطفل» عن إطلاق نهج جديد ومتكامل للتعامل مع قضايا القُصَّر الجانحين. يمثل هذا التوجه نقلة نوعية من النموذج العقابي التقليدي إلى نموذج قائم على الإصلاح والتأهيل، واضعاً “مصلحة الطفل الفضلى” في صميم كافة الإجراءات. يهدف هذا الإصلاح الشامل إلى معالجة الأسباب الجذرية للسلوك الجانح وتوفير بيئة داعمة تضمن إعادة دمج الأطفال في المجتمع كأعضاء فاعلين ومنتجين، بدلاً من وصمهم وإقصائهم.
خلفية تاريخية والتحول نحو العدالة التصالحية
على مر العقود، تعاملت العديد من الأنظمة القضائية مع الأحداث بنفس المنطق المطبق على البالغين، مع التركيز على الردع والعقوبة. إلا أن التطور في فهم علم نفس النمو وحقوق الإنسان أدى إلى ثورة فكرية عالمية. شكلت اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل لعام 1989، التي صادقت عليها غالبية دول العالم، حجر الزاوية في هذا التحول. فقد نصت المادة 40 من الاتفاقية على ضرورة أن تهدف عدالة الأحداث إلى تعزيز شعور الطفل بكرامته وقدره، وتنمية احترامه لحقوق الإنسان، وتشجيع إعادة اندماجه في المجتمع. بناءً على هذه المبادئ، بدأت الدول في تطوير أنظمة قضائية متخصصة تركز على العدالة التصالحية، التي تسعى لإصلاح الضرر الذي لحق بالضحايا والمجتمع، مع تأهيل الحدث نفسه.
أبعاد النهج الجديد: منظومة متكاملة للرعاية والإصلاح
النهج الذي تتبناه «شؤون الطفل» ليس مجرد تعديل إجرائي، بل هو منظومة شاملة ترتكز على عدة محاور أساسية لضمان تحقيق أهدافه الإنسانية والتنموية:
- بدائل الاحتجاز والتدابير غير السالبة للحرية: إدراكاً للآثار النفسية السلبية للاحتجاز على الأطفال، يركز النهج الجديد على تقليل اللجوء إليه كخيار أخير. وتشمل البدائل برامج الخدمة المجتمعية، والمراقبة القضائية مع إشراف اجتماعي، وجلسات الوساطة الأسرية، وبرامج العدالة التصالحية التي تجمع الحدث بالضحية في بيئة آمنة لتسهيل الحوار والتعافي.
- التأهيل النفسي والسلوكي المتخصص: يتم توفير فريق من الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين لإجراء تقييم شامل لكل حالة على حدة. وبناءً على هذا التقييم، يتم وضع خطط علاجية فردية تستهدف معالجة الصدمات النفسية، واضطرابات السلوك، وتعزيز مهارات حل المشكلات والتواصل الاجتماعي لدى الطفل.
- ضمان الحق في التعليم والتدريب المهني: يعتبر الانقطاع عن التعليم أحد أكبر عوامل الخطر التي تدفع نحو العودة للجنوح. لذا، يضمن النهج الجديد استمرارية تعليم القُصَّر، وتوفير برامج تدريب مهني تتناسب مع ميولهم وقدراتهم، مما يمنحهم الأدوات اللازمة لبناء مستقبل مهني مستقر وواعد.
الأهمية الاستراتيجية والتأثير المستقبلي
على المستوى المحلي، يُعد هذا الإصلاح استثماراً استراتيجياً في رأس المال البشري للبلاد. فمن خلال تحويل هؤلاء الأطفال من عبء محتمل على المجتمع إلى طاقات إيجابية، يساهم النهج في خفض معدلات الجريمة على المدى الطويل، ويقلل التكاليف الاقتصادية المرتبطة بالنظام القضائي والسجون. كما أنه يعزز التماسك الاجتماعي من خلال ترسيخ ثقافة الفرصة الثانية والاحتواء.
أما على الصعيدين الإقليمي والدولي، فإن تبني هذه الممارسات الفضلى يعزز من مكانة الدولة كنموذج رائد في مجال حماية حقوق الطفل وتطبيق المعايير الدولية. ويتماشى هذا التوجه مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، خاصة الهدف 16 الذي يدعو إلى إقامة مجتمعات سلمية وعادلة وشاملة. إن هذا الالتزام لا يعزز السمعة الدولية فحسب، بل يفتح آفاقاً للتعاون وتبادل الخبرات مع المنظمات الدولية المتخصصة، مما يضمن استمرارية تطوير وتحسين منظومة عدالة الأحداث.


