في ظل التطورات السياسية والأمنية التي تشهدها المنطقة، أكد الموقف الرسمي اللبناني، ممثلاً برئاسة الجمهورية، أن خوض مسار المفاوضات غير المباشرة مع الجانب الإسرائيلي بشأن ملف ترسيم الحدود لا يحمل في طياته أي أبعاد تتنافى مع السيادة الوطنية، مشدداً على أن هذا الإجراء التقني لا يعني بأي شكل من الأشكال "الاستسلام" أو التطبيع السياسي، بل هو ضرورة استراتيجية لانتزاع الحقوق اللبنانية في الموارد الطبيعية.
طبيعة المفاوضات: تقنية وغير مباشرة
يأتي هذا التصريح لتوضيح اللغط الدائر حول طبيعة العلاقة خلال جلسات التفاوض. حيث يحرص الجانب اللبناني دائماً على التأكيد بأن هذه المحادثات تجري بوساطة أمريكية وتحت رعاية الأمم المتحدة في مقر "اليونيفيل" بمنطقة الناقورة الحدودية، دون أي تواصل مباشر بين الوفدين. الهدف الأساسي من هذه العملية هو تحديد الخطوط الجغرافية البحرية أو البرية التي تضمن للبنان حقه في استثمار ثرواته النفطية والغازية الكامنة في مياهه الإقليمية والاقتصادية الخالصة.
السياق الاقتصادي والحاجة الملحة
لا يمكن فصل هذا الموقف عن الواقع الاقتصادي المأزوم الذي يعيشه لبنان. فالبلاد تمر بأسوأ أزمة مالية في تاريخها الحديث، مما يجعل من ملف استخراج النفط والغاز "طوق نجاة" محتمل للاقتصاد الوطني. وبالتالي، فإن الإصرار اللبناني على التفاوض ينبع من مصلحة وطنية عليا تهدف إلى إزالة العوائق الأمنية التي تمنع الشركات العالمية من التنقيب في المناطق الحدودية المتنازع عليها، وليس رغبة في إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل التي لا تزال في حالة حرب رسمية مع لبنان.
الخلفية التاريخية والبعد القانوني
تاريخياً، يحكم العلاقة بين لبنان وإسرائيل اتفاق الهدنة لعام 1949، ولا توجد معاهدة سلام بين الطرفين. ولطالما كانت الحدود البرية (الخط الأزرق) والبحرية مصدراً للتوتر المستمر. وتستند المقاربة اللبنانية في التفاوض إلى القوانين الدولية وقانون البحار، متمسكة بحقها في الخطوط التي تمنحها مساحات إضافية وحقولاً محتملة للطاقة. ويُعد هذا التمسك بالحقوق عبر القنوات الدولية شكلاً من أشكال المقاومة الدبلوماسية التي توازي في أهميتها الحفاظ على أمن الحدود.
الأهمية الاستراتيجية والإقليمية
على الصعيد الإقليمي والدولي، يحظى ملف ترسيم الحدود باهتمام بالغ، نظراً لتأثيره المباشر على استقرار منطقة شرق البحر المتوسط. فنجاح هذه المفاوضات التقنية يعني تجنب سيناريوهات التصعيد العسكري والحرب المفتوحة، مما يوفر بيئة آمنة لعمليات استخراج الطاقة التي تحتاجها الأسواق العالمية، وخاصة أوروبا. لذا، فإن الرسالة الرئاسية واضحة: التفاوض هو أداة لخدمة المصلحة الوطنية العليا وتثبيت السيادة، وليس تنازلاً عنها أو خضوعاً للإملاءات الخارجية.


