في خطبة جامعة من رحاب المسجد الحرام بمكة المكرمة، أكد إمام وخطيب المسجد الحرام على أن من أجمل وأسمى الصفات التي يتصف بها أهل الإيمان هي “الإحسان” إلى الخلق، مع الحذر التام من كل أشكال “الإيذاء”. هذه الرسالة، التي انطلقت من أقدس بقاع الأرض، لم تكن مجرد تذكير ديني عابر، بل هي دعوة لتأصيل قيم أخلاقية رفيعة تشكل أساس بناء المجتمعات المستقرة والمترابطة.
السياق والأهمية التاريخية لمنبر الحرم المكي
يحمل منبر المسجد الحرام رمزية خاصة لدى أكثر من مليار ونصف المليار مسلم حول العالم. فخطبة الجمعة التي تُلقى منه لا تعد حدثاً محلياً، بل هي رسالة عالمية تُبث مباشرة وتُترجم إلى لغات عدة، ويُنصت إليها الملايين بآذان صاغية. تاريخياً، كان هذا المنبر منارة للعلم والهداية، ومنه انطلقت رسائل شكلت وعي الأمة الإسلامية عبر العصور. لذلك، عندما يتم التركيز على مفاهيم كالإحسان وتجنب الأذى، فإن ذلك يكتسب وزناً وأثراً مضاعفاً، لأنه يمثل توجيهاً مركزياً للأمة جمعاء.
الإحسان: مفهوم أعمق من مجرد العطاء
أوضحت الخطبة أن مفهوم “الإحسان” في الإسلام يتجاوز مجرد تقديم الصدقة أو المساعدة المادية. إنه مرتبة إيمانية عليا تعني إتقان العمل وإجادته، سواء في عبادة الخالق أو في معاملة الخلق. الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. هذا المبدأ يمتد ليشمل كل جوانب الحياة: الإحسان في العمل بإتقانه، والإحسان إلى الوالدين ببرهما، والإحسان إلى الجار بكف الأذى عنه، والإحسان في القول باختيار أطيب الكلام، بل وحتى الإحسان إلى الحيوان والبيئة. إنها منظومة متكاملة تجعل من المؤمن شخصية إيجابية ومنتجة في محيطها، تسعى للكمال في كل تعاملاتها.
الحذر من الإيذاء: أساس سلامة المجتمع
على الجانب الآخر، شددت الخطبة على أهمية الحذر من إيذاء الآخرين، وهو الوجه المكمل للإحسان. فالإسلام يعتبر كف الأذى عن الناس صدقة. ويشمل الإيذاء كل ما يلحق الضرر بالغير، سواء كان ضرراً مادياً بالاعتداء على الأنفس أو الأموال، أو ضرراً معنوياً بالغيبة والنميمة والسخرية والتنمر ونشر الشائعات، خاصة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي التي سهّلت انتشار الأذى اللفظي. إن التحذير من الإيذاء هو دعوة لبناء مجتمع آمن يشعر فيه كل فرد بالطمأنينة على نفسه وعرضه وماله، وهو شرط أساسي لتحقيق التنمية والازدهار.
التأثير المتوقع للرسالة
على الصعيدين المحلي والدولي، تساهم مثل هذه الخطب في تعزيز الصورة الحقيقية للإسلام كدين يدعو للرحمة والتعايش والسلام. ففي عالم يموج بالصراعات والأفكار المتطرفة، تأتي هذه الرسالة من قلب العالم الإسلامي لتؤكد على أن جوهر الدين هو بناء الإنسان الصالح الذي ينفع ولا يضر، ويُحسن ولا يسيء. إنها دعوة لإعادة ترتيب الأولويات لدى المسلمين، والتركيز على الأخلاق والمعاملات كدليل على صدق الإيمان، مما ينعكس إيجاباً على استقرار المجتمعات وتآلفها.


