بعد مرور أكثر من عقدين على رحيل الزعيم الفلسطيني التاريخي ياسر عرفات، عادت قضية وفاته لتتصدر المشهد الإعلامي مجدداً، حاملة معها تفاصيل مثيرة تكشف لأول مرة. فقد فجر اللواء محمد الداية، المرافق الشخصي للرئيس الراحل، مفاجأة من العيار الثقيل بتأكيده أن "أبوعمار" قضى نحبه نتيجة عملية تسميم متعمدة وممنهجة، مشيراً بأصابع الاتهام إلى دائرة ضيقة من المقربين.
وفي حديثه عبر بودكاست "ما بعد السابع" على منصة "مزيج" التابعة لشبكة العربية، وصف الداية ما حدث بأنه "مؤامرة مكتملة الأركان"، موضحاً أن السم دُس للرئيس الراحل عبر الدواء الذي كان يتناوله، وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات قانونية وسياسية واسعة حول الاختراقات الأمنية التي طالت الدائرة الأولى المحيطة بصانع القرار الفلسطيني آنذاك.
سياق الحصار والنهاية الغامضة
لا يمكن فصل هذه التصريحات عن السياق التاريخي والسياسي الذي سبق وفاة عرفات. فقد خضع الرئيس الفلسطيني لحصار عسكري إسرائيلي خانق في مقر المقاطعة بمدينة رام الله منذ عام 2002، في ذروة أحداث الانتفاضة الثانية. عاش عرفات سنواته الأخيرة في ظروف قاسية، محروماً من الحركة والتواصل الطبيعي مع العالم الخارجي، وسط تهديدات إسرائيلية متكررة بإبعاده أو تصفيته، وهو المناخ الذي يعزز فرضية الاغتيال السياسي.
تدهورت صحة عرفات بشكل مفاجئ وسريع في أواخر أكتوبر 2004، مما استدعى نقله بشكل عاجل إلى مستشفى "بيرسي" العسكري في فرنسا، حيث توفي في 11 نوفمبر من العام نفسه. ورغم أن التقارير الطبية الفرنسية الرسمية عزت الوفاة إلى نزيف دماغي حاد ناتج عن اضطرابات دموية، إلا أن عدم تشريح الجثة حينها ترك الباب موارباً أمام الشكوك التي لم تهدأ طوال السنوات الماضية.
الجدل حول البولونيوم والتقارير الدولية
تكتسب شهادة المرافق الشخصي أهمية خاصة عند ربطها بالتحقيقات الدولية التي جرت لاحقاً. ففي عام 2012، قام خبراء سويسريون بفحص مقتنيات عرفات الشخصية ورفاته، وخلصوا في تقرير نُشرت نتائجه في صحيفة "الغارديان" البريطانية إلى وجود مستويات غير طبيعية من مادة "البولونيوم-210" المشعة، وهي مادة سمية قاتلة يصعب اكتشافها، مما دعم علمياً فرضية التسميم التي يتمسك بها الشارع الفلسطيني.
كواليس سياسية وعلاقات شائكة
إلى جانب قضية الاغتيال، تطرق الداية إلى جوانب خفية من حياة عرفات السياسية، كاشفاً عن لقاءات سرية جمعته بمسؤولين إسرائيليين، بينهم إيهود باراك، في تل أبيب وغزة، مما يعكس تعقيدات المشهد السياسي في تلك الحقبة. كما نفى الشائعات التي طالت علاقة عرفات بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك أثناء توقيع اتفاق أوسلو، مؤكداً في الوقت ذاته أن عرفات قدم دعماً ومساندة لحركة حماس، انطلاقاً من رؤيته للوحدة الوطنية الفلسطينية.
تظل قضية وفاة ياسر عرفات ملفاً مفتوحاً وجرحاً غائراً في الذاكرة الفلسطينية، حيث تتجدد المطالبات الشعبية والرسمية بضرورة تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة لكشف الجناة ومحاسبتهم، خاصة مع تواتر الشهادات التي تؤكد أن رحيل "الختيار" لم يكن قضاءً وقدراً، بل جريمة سياسية بامتياز.


