تخوض اللغة العربية، المعروفة تاريخياً بـ «لغة الضاد»، معركة وجودية وحضارية في آنٍ واحد، حيث تقف اليوم على أعتاب تحولات جذرية تفرضها الثورة الرقمية وتقنيات الذكاء الاصطناعي. فبينما يخشى البعض من ذوبان الهوية اللغوية تحت وطأة العولمة وهيمنة اللغات اللاتينية على لغات البرمجة، تثبت العربية أنها تمتلك من المرونة والبلاغة ما يجعلها عصية على «التنكّر» أو الاندثار، بل وتغري العالم الرقمي بخصائصها الفريدة.
السياق التاريخي: من المعلقات إلى الخوارزميات
لم تكن اللغة العربية يوماً مجرد وسيلة للتواصل العابر، بل كانت وعاءً للحضارة والعلوم لقرون طويلة. فمنذ عصر المعلقات الشعرية، مروراً بحركة الترجمة الكبرى في العصر العباسي حيث كانت العربية لغة العلم الأولى عالمياً، أثبتت هذه اللغة قدرتها على استيعاب المفاهيم الجديدة. واليوم، يتكرر المشهد ولكن بأدوات مختلفة؛ فبدلاً من الورق والمحابر، تواجه العربية تحدي «الصفر والواحد» في الفضاء السيبراني. إن الصمود الذي أبدته العربية أمام موجات التغريب والاستعمار في القرون الماضية، يشكل الأساس المتين الذي تستند إليه اليوم في مقاومة طمس الهوية الرقمية.
العربية وتحديات المحتوى الرقمي
على الرغم من أن اللغة العربية تحتل المرتبة السادسة عالمياً من حيث عدد المتحدثين، وتشكل لغة رسمية في الأمم المتحدة، إلا أن الفجوة لا تزال واضحة بين عدد المتحدثين وحجم المحتوى العربي الموثوق على شبكة الإنترنت. تشير الإحصاءات التقنية إلى أن المحتوى العربي لا يزال لا يتناسب مع الثقل الديموغرافي للعرب، مما يخلق تحدياً مزدوجاً: ضرورة زيادة الكم، وضرورة تحسين الكيف ليتناسب مع محركات البحث ومعايير الأرشفة العالمية.
إغراء الرقمية بالأساليب البلاغية
ما يميز اللغة العربية في عصر الذكاء الاصطناعي هو نظامها الصرفي والاشتقاقي الفريد (نظام الجذور). هذا النظام الذي قد يبدو معقداً للمتعلمين، يمثل في الواقع «كنزاً رياضياً» للخوارزميات ومعالجة اللغات الطبيعية (NLP). إن قدرة الكلمة العربية الواحدة على توليد عشرات المعاني والمشتقات تمنح النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs) كثافة في المعنى واختصاراً في المبنى، وهو ما تسعى إليه الشركات التقنية الكبرى حالياً لتطوير نماذج ذكاء اصطناعي أكثر دقة وفهماً للسياق.
الأهمية الاستراتيجية والمستقبلية
لا ينحصر تأثير دمج العربية في الرقمنة على الجانب الثقافي فحسب، بل يمتد ليشمل أبعاداً اقتصادية وسياسية:
- محلياً وإقليمياً: تقود دول الخليج، وتحديداً المملكة العربية السعودية والإمارات، مبادرات ضخمة مثل «مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية» وتطوير نماذج لغوية عربية مثل «جيس»، لضمان سيادة البيانات العربية وعدم الاعتماد الكلي على النماذج الغربية.
- دولياً: يساهم تعزيز العربية رقمياً في فتح أسواق جديدة للشركات التقنية العالمية التي تدرك أن الوصول إلى 400 مليون مستخدم عربي يتطلب فهم لغتهم بدقة، وليس مجرد الترجمة الحرفية.
في الختام، لا تقاوم لغة الضاد التنكر فحسب، بل تعيد تشكيل نفسها كلاعب أساسي في معادلة المستقبل الرقمي، مستفيدة من إرثها البلاغي لترويض جمود الآلة.


