في خطوة تمثل تحولاً جذرياً في المشهد الجيوسياسي لأمريكا اللاتينية، أعلنت كولومبيا رسمياً استئناف الرحلات الجوية التجارية مع جارتها فنزويلا، منهية بذلك سنوات من القطيعة الدبلوماسية والعزلة الجوية. يأتي هذا القرار ليعيد وصل ما انقطع بين البلدين الشقيقين، متجاوزاً بذلك التعقيدات السياسية والاقتصادية التي خلفتها قرارات الإدارات الأمريكية السابقة، وتحديداً سياسة "الضغوط القصوى" التي انتهجها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب ضد حكومة كاراكاس.
خلفية الصراع والقطيعة الدبلوماسية
لفهم أهمية هذا الحدث، يجب العودة إلى الوراء قليلاً، حيث شهدت العلاقات الكولومبية الفنزويلية تدهوراً حاداً وصل إلى ذروته في عام 2019. حينها، قطعت كولومبيا، تحت قيادة الرئيس السابق إيفان دوكي، علاقاتها الدبلوماسية مع فنزويلا، تماشياً مع الموقف الأمريكي الذي اعترف بخوان غوايدو رئيساً مؤقتاً لفنزويلا بدلاً من نيكولاس مادورو. وقد أدى هذا الاصطفاف إلى إغلاق الحدود وتوقف حركة الطيران، مما تسبب في أزمة إنسانية واقتصادية خانقة على جانبي الحدود الممتدة لمسافة 2200 كيلومتر.
تحدي العقوبات وإرث حقبة ترمب
يشير العنوان إلى "قرار ترمب"، والمقصود هنا هو حزمة العقوبات الاقتصادية الصارمة والحظر الذي فرضته إدارة ترامب على قطاع النقل والطاقة الفنزويلي لعزل نظام مادورو. كان استئناف الرحلات الجوية يواجه عقبات قانونية ولوجستية كبيرة بسبب هذه العقوبات التي لا تزال سارية جزئياً من قبل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية الأمريكي (OFAC). ومع ذلك، فإن القرار الكولومبي الحالي يعكس رغبة سياسية قوية في تجاوز هذه القيود، حيث تسعى بوغوتا لتبني سياسة خارجية أكثر استقلالية تركز على المصالح الوطنية والإقليمية بدلاً من التماهي الكامل مع الأجندة الخارجية، خاصة بعد صعود اليسار إلى السلطة في كولومبيا.
الأهمية الاقتصادية والإنسانية
لا يقتصر تأثير عودة الرحلات الجوية على الجانب الرمزي فحسب، بل يحمل أبعاداً اقتصادية هائلة. قبل الأزمة، كانت فنزويلا ثاني أكبر شريك تجاري لكولومبيا. ومن المتوقع أن يساهم استئناف النقل الجوي، إلى جانب فتح المعابر البرية، في إنعاش التبادل التجاري الذي يطمح البلدان لرفعه إلى مستويات تتجاوز المليارات من الدولارات. كما يمثل هذا القرار انفراجة لملايين المواطنين المقيمين على جانبي الحدود، وللجالية الفنزويلية الكبيرة في كولومبيا التي عانت لسنوات من صعوبة التنقل وزيارة ذويهم.
آفاق المستقبل
يمهد هذا التقارب الطريق لمرحلة جديدة من التعاون الإقليمي في أمريكا الجنوبية، حيث يعاد دمج فنزويلا تدريجياً في المنظومة اللاتينية. ورغم أن التحديات لا تزال قائمة، خاصة فيما يتعلق بالبنية التحتية للمطارات والقيود المالية الدولية، إلا أن إقلاع أولى الطائرات يرسل رسالة واضحة بأن الدبلوماسية والبراغماتية الاقتصادية بدأت تأخذ مجراها بعيداً عن سياسات العزل التي سادت في السنوات الماضية.


