وافق البرلمان الألماني (البوندستاغ) رسمياً على الموازنة العامة للبلاد لعام 2026، في خطوة أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الاقتصادية والسياسية، نظراً لكونها موازنة مثقلة بالديون تأتي في وقت حساس يمر به الاقتصاد الأكبر في أوروبا. يعكس هذا القرار التحديات الجسيمة التي تواجهها برلين في الموازنة بين الالتزام بالانضباط المالي الدستوري وبين الحاجة الملحة لضخ استثمارات ضخمة لإنعاش الاقتصاد.
خلفية تاريخية: معضلة “كبح الديون”
لفهم عمق هذا الحدث، يجب النظر إلى السياق التاريخي والتشريعي في ألمانيا. لطالما افتخرت ألمانيا بآلية “كبح الديون” (Schuldenbremse) التي تم إقرارها دستورياً في عام 2009، والتي تحد من قدرة الحكومة على الاقتراض الجديد لضمان الاستقرار المالي للأجيال القادمة. ومع ذلك، فرضت الأزمات المتتالية، بدءاً من جائحة كورونا وصولاً إلى تداعيات الحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة، ضغوطاً هائلة دفعت الحكومة إلى تعليق هذه الآلية عدة مرات أو البحث عن صناديق خاصة خارج الموازنة، مما أدى إلى نقاشات قانونية وسياسية حادة حول دستورية هذه الإجراءات.
دوافع الاقتراض: الاستثمار في البنية التحتية والتحول الأخضر
تأتي الموازنة الجديدة لعام 2026 محملة بالديون نتيجة لعدة عوامل لا يمكن تجاهلها. أولاً، تسعى ألمانيا لتسريع وتيرة التحول نحو الطاقة النظيفة (Energiewende) لتحقيق الحياد المناخي، وهو مشروع يتطلب استثمارات تريليونية في البنية التحتية للطاقة المتجددة وشبكات الكهرباء. ثانياً، هناك حاجة ملحة لتحديث البنية التحتية الرقمية والمواصلات التي عانت من نقص التمويل لسنوات. بالإضافة إلى ذلك، تلتزم برلين بزيادة إنفاقها الدفاعي تماشياً مع متطلبات حلف الناتو وفي إطار سياسة “نقطة التحول” (Zeitenwende) التي أعلن عنها المستشار الألماني، مما يضيف أعباءً جديدة على الخزينة العامة.
التأثيرات الاقتصادية المحلية والأوروبية
على الصعيد المحلي، يرى المؤيدون أن هذه الموازنة ضرورية لتجنب الركود الاقتصادي وتحفيز النمو في ظل تباطؤ الاقتصاد العالمي. إلا أن المعارضين يحذرون من أن زيادة الاقتراض قد تؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم وتقويض الثقة في الاستقرار المالي الألماني على المدى الطويل. أما على الصعيد الأوروبي، فإن ما يحدث في ألمانيا يتردد صداه في كامل منطقة اليورو. فباعتبارها قاطرة الاقتصاد الأوروبي، فإن أي تعثر أو تغيير جذري في السياسة المالية الألمانية يؤثر بشكل مباشر على سياسات البنك المركزي الأوروبي وعلى الاقتصادات المرتبطة بها. إن تمرير هذه الموازنة يرسل إشارة واضحة بأن برلين قد تكون بصدد تبني نهج مالي أكثر مرونة لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، وهو ما قد يعيد تشكيل القواعد المالية للاتحاد الأوروبي مستقبلاً.


