شهدت الأسواق المالية العالمية تحولاً جذرياً خلال الأيام القليلة الماضية، حيث ارتفعت عوائد السندات العالمية إلى مستويات غير مسبوقة منذ الأزمة المالية العالمية في عامي 2008 و2009. ويأتي هذا الصعود القوي وسط حالة من القلق تسيطر على المستثمرين بشأن مستقبل السياسات النقدية، وتلاشي الآمال بقرب انتهاء دورات التشديد النقدي في الاقتصادات الكبرى.
مؤشرات قياسية وتحولات في السياسة النقدية
سجل مؤشر «بلومبيرغ» لعوائد السندات الحكومية طويلة الأجل قفزة نوعية، ملامساً أعلى مستوياته في 16 عاماً. ويعكس هذا الارتفاع إعادة تقييم شاملة من قبل الأسواق لمسار أسعار الفائدة العالمية. ففي أوروبا، تراجعت الرهانات على قيام البنك المركزي الأوروبي بتيسير سياستة النقدية بشكل سريع، مما دفع العوائد للارتفاع. وفي آسيا، تتجه الأنظار نحو اليابان، حيث يراهن المستثمرون بشكل شبه مؤكد على رفع أسعار الفائدة هذا الشهر، في خطوة تمثل خروجاً تاريخياً عن سياسة الفائدة السلبية التي استمرت لسنوات. وبالتوازي، تشير التوقعات في أستراليا إلى احتمالية إقرار زيادتين في أسعار الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية خلال العام المقبل لمكافحة التضخم العنيد.
المفارقة الأمريكية: خفض الفائدة وارتفاع العوائد
في الولايات المتحدة، ورغم التوقعات الواسعة ببدء الاحتياطي الفيدرالي دورة خفض أسعار الفائدة، إلا أن سوق السندات سلك مساراً معاكساً. فقد ارتفعت عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 30 عاماً إلى مستويات قياسية جديدة خلال الأشهر الأخيرة. ويعود هذا التباين إلى عدة عوامل جوهرية، أبرزها المخاوف المتعلقة بـ «الانضباط المالي».
يواجه الاقتصاد الأمريكي تحديات هيكلية تتمثل في عجز الموازنة الضخم الذي يبلغ 1.8 تريليون دولار، مما يضطر الحكومة إلى إصدار كميات هائلة من الديون (السندات) لتمويل هذا العجز. وتؤدي زيادة المعروض من السندات في السوق، مع ثبات أو تراجع الطلب، إلى انخفاض أسعار السندات وبالتالي ارتفاع عوائدها بشكل تلقائي.
التضخم ومخاطر المستقبل
علاوة على ذلك، لا تزال بيانات التضخم تشكل هاجساً لصناع القرار والمستثمرين على حد سواء. فقد أظهرت البيانات الأخيرة صعود مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي (PCE) – وهو المقياس المفضل لدى الفيدرالي للتضخم – إلى 2.8% في سبتمبر، متجاوزاً الهدف الرسمي البالغ 2% بنحو نقطة مئوية كاملة. هذا الارتفاع يغذي التوقعات بأن الفائدة قد تظل «مرتفعة لفترة أطول» مما كان متوقعاً سابقاً.
كما بدأت الأسواق في تسعير «علاوة مخاطر» إضافية على منحنى العوائد، مدفوعة بالشكوك حول استقلالية الرئيس القادم للاحتياطي الفيدرالي والضغوط السياسية المحتملة، مما يجعل المستثمرين يطلبون عائداً أعلى مقابل إقراض الحكومة الأمريكية لفترات طويلة.


