أكد الرئيس اللبناني أن التوصل إلى تفاهم نهائي بشأن ترسيم الحدود البحرية الجنوبية يمثل نقطة تحول استراتيجية ومفصلية في مسار الاستقرار الإقليمي، مشدداً على أن هذا الاتفاق التاريخي هو السبيل الوحيد والعملي للتخلي عن خيارات العنف والحرب التي كانت تخيم بظلالها القاتمة على المنطقة لسنوات طويلة. وجاءت هذه التصريحات الحاسمة في توقيت دقيق يعيش فيه لبنان والشرق الأوسط تحديات جيوسياسية واقتصادية كبرى، حيث يُنظر إلى هذا الملف باعتباره بوابة الأمل الوحيدة لانتشال البلاد من أزماتها المتراكمة ووضعها على خارطة الدول المنتجة للنفط والغاز.
خلفية تاريخية ومسار المفاوضات الشاق
لم يكن الوصول إلى هذه المرحلة المتقدمة من التفاهم وليد اللحظة أو الصدفة، بل جاء نتاج أكثر من عقد من الزمن من المفاوضات الشاقة وغير المباشرة التي خاضها لبنان بصلابة، مستنداً إلى وثائق وخرائط تثبت حقه السيادي. وقد لعبت الوساطة الأمريكية، وتحديداً عبر المبعوثين المتعاقبين وصولاً إلى الجهود المكثفة الأخيرة، دوراً محورياً في تقريب وجهات النظر وتذليل العقبات بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي. تركزت الخلافات لسنوات حول الخطوط البحرية (الخط 1، الخط 23، والخط 29) وحقول الغاز المحتملة، وقد مرت هذه المفاوضات بمنعطفات خطيرة كادت أن تودي بالمنطقة إلى صراع عسكري مفتوح، لولا تغليب لغة الدبلوماسية والمصالح الاقتصادية المشتركة التي تضمن حقوق لبنان الكاملة في ثرواته الطبيعية دون أي تنازل عن سيادته.
الأبعاد الاقتصادية والكونسورتيوم الدولي
يكتسب هذا التفاهم البحري أهمية قصوى وحيوية بالنسبة للداخل اللبناني، حيث يرزح البلد تحت وطأة أزمة اقتصادية ومالية خانقة صنفها البنك الدولي من بين الأسوأ عالمياً منذ منتصف القرن التاسع عشر. ويُعول لبنان بشكل كبير على بدء عمليات التنقيب عن النفط والغاز في مياهه الإقليمية، وتحديداً في البلوكات الجنوبية وحقل قانا المحتمل، كمصدر رئيسي للعملة الصعبة ولإعادة بناء قطاع الطاقة المتهالك الذي يعاني من عجز مزمن. إن الاستقرار الأمني الذي يوفره هذا الاتفاق يعتبر شرطاً مسبقاً وجوهرياً لتحالف الشركات العالمية (الكونسورتيوم) الذي تقوده شركة “توتال إنيرجيز” الفرنسية ويضم “إيني” الإيطالية و”قطر للطاقة”، للبدء الفعلي في عمليات الحفر والاستخراج دون مخاوف من اندلاع أعمال عدائية أو مخاطر أمنية تهدد استثماراتهم الضخمة.
المعادلة الأمنية والاستقرار الإقليمي
على الصعيد الأمني والاستراتيجي، يضع هذا الاتفاق حداً لحالة التوتر الدائم والاستنفار العسكري على الحدود البحرية، ويؤسس لمعادلة ردع جديدة تعتمد على توازن المصالح الاقتصادية بدلاً من توازن الرعب العسكري. فمن خلال تثبيت الحدود وحقوق الاستخراج، يتم سحب فتيل التفجير الذي كان يتمثل في التنازع المباشر على حقل كاريش وحقل قانا. ويرى المراقبون الدوليون أن هذا التفاهم، وإن لم يكن معاهدة سلام سياسية أو تطبيعاً للعلاقات، إلا أنه “اتفاق ضرورة” يضمن الهدوء طويل الأمد على جبهة شرق البحر المتوسط، مما ينعكس إيجاباً على أمن الملاحة الدولية وإمدادات الطاقة نحو أوروبا والعالم، خاصة في ظل أزمة الطاقة العالمية الراهنة.
خاتمة
في الختام، يمثل موقف الرئاسة اللبنانية تأكيداً على خيار الدولة في استعادة حقوقها السيادية بالطرق الدبلوماسية والقانونية المستندة إلى القانون الدولي، مع الحفاظ على السلم الأهلي والإقليمي وتجنيب البلاد ويلات الحروب. ويبقى الرهان الآن على سرعة التنفيذ والبدء الفعلي في الاستفادة من الثروات الهيدروكربونية الكامنة لخدمة الشعب اللبناني واقتصاده المنهك، ليكون هذا الاتفاق حجر الأساس في ورشة النهوض الاقتصادي المرتقبة.


