في خطوة دبلوماسية جديدة تهدف إلى كبح جماح الأزمة المتفاقمة في السودان، من المتوقع أن تستضيف العاصمة الأمريكية واشنطن، يوم الثلاثاء القادم، اجتماعاً عربياً أمريكياً رفيع المستوى. يشارك في الاجتماع، بحسب مصادر مطلعة، مستشار الرئيس الأمريكي للشؤون العربية والأفريقية، مسعد بولس، إلى جانب مسؤولين عرب، في محاولة جادة للتوصل إلى صيغة تنهي الاقتتال الدائر وتفتح الباب أمام المساعدات الإنسانية.
وتهدف هذه المبادرة بشكل أساسي إلى تحقيق وقف فوري لإطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر، وهي فترة يُؤمل أن تكون كافية للسماح ببدء عمليات إغاثية واسعة النطاق لإيصال المساعدات الإنسانية العاجلة إلى ملايين المتضررين الذين حاصرتهم الحرب.
خلفية الصراع وتداعياته الإنسانية
اندلع الصراع في السودان في أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي”. جاء هذا الصراع بعد أشهر من التوترات المتصاعدة بين الطرفين اللذين كانا شريكين في السلطة بعد الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير. سرعان ما تحولت العاصمة الخرطوم ومدن أخرى إلى ساحات قتال، مما أدى إلى انهيار شبه كامل للدولة وتسبب في كارثة إنسانية وصفتها الأمم المتحدة بأنها من أسوأ الكوارث في العالم. وقد أسفرت الحرب عن مقتل عشرات الآلاف وتشريد أكثر من 8 ملايين شخص، سواء داخل السودان أو كلاجئين في دول الجوار مثل تشاد ومصر وجنوب السودان، مما يشكل ضغطاً هائلاً على المنطقة ويهدد بزعزعة استقرارها.
توثيق الجرائم: من شهادات الناجين إلى الأدلة الرقمية
بالتوازي مع المساعي الدبلوماسية، يتصاعد الاهتمام الدولي بملف جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وفي هذا السياق، يشير تحليل لمجلة “فورين بوليسي” إلى تحول جذري في آليات العدالة الدولية. فبدلاً من الاعتماد البطيء على شهادات الناجين والمعاينات الميدانية التي كانت سائدة في الماضي، أصبح العالم اليوم يعتمد على أدوات تكنولوجية حديثة لتوثيق الفظائع بشكل فوري ودقيق.
وقالت جانين دي جيوفاني، الرئيس التنفيذي لمشروع “الحساب” في جامعة ييل، إن المجتمع الدولي فشل في منع مجازر البوسنة ورواندا في التسعينيات، وعانت المحاكم الدولية لاحقاً من صعوبات في جمع الأدلة. لكن الوضع في السودان يقدم نموذجاً مختلفاً بفضل التكنولوجيا. فالأدلة أصبحت تُجمع عبر صور الأقمار الصناعية عالية الدقة، وبيانات تحديد الموقع الجغرافي، وتحليل المصادر المفتوحة، مما يسمح بكشف مسارات الجرائم وتحديد المسؤولين عنها بشكل أسرع وأكثر دقة.
قضية الفاشر ولحظة الحقيقة
تعتبر مدينة الفاشر في إقليم دارفور مثالاً صارخاً على هذه المقاربة الجديدة. فبعد حصار طويل للمدينة، تدهورت الأوضاع الإنسانية وتوالت التقارير عن إعدامات ميدانية واغتصاب ودفن ضحايا في مقابر جماعية. وقد نشر مختبر ييل للبحوث الإنسانية صوراً تظهر اضطرابات في التربة بالقرب من مستشفى أطفال سابق كانت تسيطر عليه قوات الدعم السريع، وهي صور تشير بوضوح إلى وجود مقابر جماعية. وقد وصفت وزارة الخارجية الأمريكية ما حدث في دارفور بأنه “إبادة جماعية”، بينما وصف مسؤول أممي زار المنطقة بأنها “مسرح جريمة”.
المفارقة المروعة هي أن مرتكبي هذه الجرائم يساهمون بأنفسهم في بناء الأدلة ضدهم، عبر تصوير ونشر مقاطع فيديو لعمليات قتل المدنيين. ويتم التحقق من هذه المواد وربطها جغرافياً بصور الأقمار الصناعية، بل وتحديد قادة ميدانيين ظهروا فيها. يبقى السؤال المحوري الذي يطرحه المراقبون: هل ستُترجم هذه الأدلة الدامغة إلى مسار عدالة فعلي، أم ستظل، كما حدث في تجارب سابقة، مجرد ملفات معلّقة في الأرشيف الدولي؟


